كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحقيقية الثالثة: المترتبة على هاتين الحقيقتين، أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام، ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده «الدين» عند الله..
ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل «الأديان» أمام الإلحاد كلامًا لا مفهوم له في اعتبار الإسلام! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل، لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها. فكل شيء في الحياة يقوم أولًا على أساس العقيدة.. في اعتبار الإسلام..
وفي النهاية يجيء ذلك التقرير الشامل عن موقف أنبياء بني إسرائيل من كفار بني إسرائيل، على مدى التاريخ؛ ممثلًا في موقف داود وموقف عيسى- عليهما السلام- وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل، واستجاب الله له. بسبب عصيانهم وعدوانهم، وبسبب انحلالهم الاجتماعي، وسكوتهم على المنكر يفشو فيهم فلا يتناهون عنه؛ وبسبب توليهم الكافرين؛ فباءوا بالسخط واللعنة، وكتب عليهم الخلود في العذاب.
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا. لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل إليه ما اتخذوهم أولياء. ولكن كثيرًا منهم فاسقون}.
وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية واللعنة عريق. وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم، هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله؛ فسمع الله دعاءهم وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل.
والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة؛ وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة الله- كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها- وهم الذين نقضوا عهد الله معهم لينصرنّ كل رسول ويعزرونه ويتبعونه:
{ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
فهي المعصية والاعتداء؛ يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية والسلوكية على السواء. وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء.. كما فصل الله في كتابه الكريم.
ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالًا فردية في مجتمع بني إسرائيل. ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها؛ وأن يسكت عنها المجتمع. ولا يقابلها بالتناهي والنكير:
{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}.
إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين. فالأرض لا تخلو من الشر؛ والمجتمع لا يخلو من الشذوذ، ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفًا مصطلحًا عليه؛ وأن يصبحا سهلًا يجترئ عليه كل من يهم به.. وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات؛ ويصبح الجزاء على الشرك رادعًا وجماعيًا تقف الجماعة كلها دونه؛ وتوقع العقوبة الرادعة عليه.. عندئذ ينزوي الشر، وتنحسر دوافعه. وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه. وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع، ولا يسمح لها بالسيطرة؛ وعندئذ لا تشيع الفاحشة. ولا تصبح هي الطابع العام!
والمنهج الإسلامي- بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي- في صورة الكراهية والتنديد، يريد للجماعة المسلمة أن يكون لها كيان حي متجمع صلب؛ يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية، قبل أن تصبح ظاهرة عامة؛ ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبًا في الحق، وحساسًا تجاه الاعتداء عليه؛ ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء.. ولا يخافوا لومة لائم. سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم؛ أو الأغنياء المتسلطين بالمال؛ أو الأشرار المتسلطين بالأذى؛ أو الجماهير المتسلطة بالهوى. فمنهج الله هو منهج الله، والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء.
والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة؛ فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه؛ ويجعل الأمانة في عنق كل فرد، بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة.
روى الإمام أحمد- بإسناده- عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله بعضهم ببعض. ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم.. {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، فقال: ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا».
وروى أبو داود- بإسناده- عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم} إلى قوله: {فاسقون} ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا- أو تقصرنه على الحق قصرًا».
فليس هو مجرد الإمر والنهي، ثم تنتهي المسأله، إنما هو الإصرار، والمقاطعه، والكف بالقوة عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء.
وروى مسلم- بإسناده- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان».
وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن عدي بن عميرة قال- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم- وهم قادرون على أن ينكروه- فلا ينكرونه. فإذا فعلوا عذب الله العامة والخاصة».
وروى أبو داود والترمذي- بإسناده- عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر».
وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى؛ لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد- فيها وهو يرى المنكر يقع من غيره-: وأنا مالي؟! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع، بحيث لا يقول أحد- وهو يرى الفساد يسري ويشيع- وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى؟! وهذه الغيرة على حرمات الله، والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله.
هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به..
وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله؛ ومعرفة تكاليف هذا الإيمان. وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله؛ ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة. وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة، والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله.. فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله؛ ويقيم حياته كلها على منهجه؛ هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بحيث لا يصبح هذا عملًا فرديًا ضائعًا في الخضم؛ أو يجعله غير ممكن أصلًا في كثير من الأحيان! كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض؛ والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد؛ وتعتبر الفسق والفجور والمعصية «مسائل شخصية»! ليس لأحد أن يتدخل في شأنها.. كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفًا مصلتًا من الإرهاب يلجم الأفواه، ويعقد الألسنة، وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان..
إن الجهد الأصيل، والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولًا إلى إقامة المجتمع الخير.. والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله.. قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية، شخصية وفردية؛ عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله؛ وحين تطغى الجاهلية، وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله؛ وحيت يتخذ له شريعة غير شريعة الله. فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس، وأن تنبت من الجذور؛ وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض.. وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئًا يرتكن إلى أساس.
وهذا يحتاج إلى إيمان. وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة. فالإيمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله؛ والثقة كلها بنصرته للخير- مهما طال الطريق- واحتساب الأجر عنده، فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض، ولا تقديرًا من المجتمع الضال، ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان!
إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم. مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله، ويتحاكم إلى شريعته، مهما وجد فيه من طغيان الحكم، في بعض الأحيان، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان.. وهكذا نجد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» فهو «إمام» ولا يكون إمامًا حتى يعترف ابتداء بسلطان الله؛ وبتحكيم شريعته. فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له: «إمام» إنما يقول عنه الله سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله، فالمنكر الأكبر فيها والأهم، هو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات.. هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة.. وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار، قبل الدخول في المنكرات الجزئية، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر، وفرع عنه، وعرض له..
إنه لا جدوى من ضياع الجهد.. جهد الخيرين الصالحين من الناس.. في مقاومة المنكرات الجزئية، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول.. منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية، ورفض ألوهية الله، برفض شريعته للحياة.. لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال.
على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات؟ بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم: إن هذا منكر فاجتنبوه؟ أنت تقول: إن هذا منكر؛ فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك: كلا! ليس هذا منكرًا. لقد كان منكرًا في الزمان الخالي! والدنيا «تتطور»، والمجتمع «يتقدم» وتختلف الاعتبارات!
فلابد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال، ولابد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر. فمن أين نستمد هذه القيم؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان؟
من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم- وهي متقلبة لا تثبت على حال؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها، وإلى خضم لا معالم فيه!
فلابد ابتداء من إقامة الميزان.. ولابد أن يكون هذا الميزان ثابتًا لا يتأرجح مع الأهواء..
هذا الميزان الثابت هو ميزان الله..
فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف- ابتداء- بسلطان الله؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله؟
ألا يكون جهدًا ضائعًا، وعبثًا هازلًا، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة، تختلف عليها الموازين والقيم، وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟!
إنه لابد من الاتفاق مبدئيًا على حكم، وعلى ميزان، وعلى سلطان، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء..